ما الذي يجعل الحياة جيدة؟

دروس من دراسة هارفرد حول تطوّر البالغين

بقلم مايكل ميلر وألكسندرا تانن أولسون

ماذا لو لم يكن مفتاح الحياة السعيدة والصحية هو الثروة، أو المكانة، أو معدل الذكاء (IQ) — بل شيئًا أبسط وأكثر عمقًا: التواصل (العلاقات الإنسانية)؟

هذا هو الفهم العميق الذي أظهرته دراسة هارفرد حول تطور البالغين، والتي تعتبر أطول دراسة مستمرة في التاريخ حول هذا الموضوع. على مدار أكثر من 85 عامًا، طرح الباحثون في هارفارد سؤالًا مهمًا: ما الذي يجعل الحياة جيدة؟

شارك مئات الأشخاص الذين وافقوا على القيام بمجموعة واسعة من المقابلات والاستبيانات والفحوصات الجسدية، بالإضافة إلى قياسات صحية شاملة. ورغم وجود العديد من التحديات، استمرت الدراسة في جمع البيانات عبر السنين، مما أتاح لها إنشاء مجموعة كبيرة وفريدة من المعلومات عن صحة الإنسان ورفاهيته.

وصف مؤسس الدراسة مهمتها عام 1942 بأنها محاولة لـ”المساهمة في تقليل التوترات في العالم”. وبعد مرور ما يقارب القرن من البحث والدراسة، ما الذي يمكن أن تعلمنا إياه هذه التجارب؟ وكيف يمكن أن تسهم هذه الدروس في تحسين حياتنا وجعلها أكثر إشباعًا؟

إليك ستة أفكار مدعومة بالأبحاث تشرح كيف يوازن دماغك بين الخيارات، بالإضافة إلى استراتيجيات في الذكاء العاطفي تجعل اتخاذ القرار أقل تعقيدًا.

 

 ثلاث نتائج رئيسية من دراسة هارفارد 

  1. يُعتبر النجاح نتيجة لتجارب الحياة، لذا حدد أهدافك على المدى الطويل. 

صرح جوشوا شينك، الصحفي في مجلة أتلانتيك، ومن أوائل غير الباحثين الذين استعرضوا الأرشيف، أن “نظرة واحدة على لحظة معينة في حياة شخص قد تكون مضللة إلى حد بعيد.” بعض المشاركين الذين بدا عليهم التكيف والسعادة في البداية، واجهوا لاحقًا تحديات الاكتئاب والعزلة، بينما آخرون، رغم ظروفهم الصعبة في النجاح، عاشوا حياة طويلة مليئة بالمعنى والرضا. 

لذا، للإجابة عن سؤال: ما الذي يجعل الحياة جيدة؟ من الضروري النظر إلى الصورة الكاملة. 

على سبيل المثال، جون هاينز الذي بدا متألقًا طوال طفولته وسنواته في هارفارد. لاحظ موظفو دراسة غرانت ما يلي “ربما أكثر من أي صبي آخر كان في دراسة غرانت، يجسد المشارك التالي صفات شخصية متفوقة: الاستقرار، الذكاء، حسن الحكم، الصحة، الهدف العالي، والمثل العليا.” لكن حياته انحرفت بشدة. تزوّج، أخذ وظيفة في الخارج، وكافح مع تعاطي المواد. كانت لديه علاقة مع امرأة، وقد اعتبرها المعالج النفسي مريضة ذهانياً، وتوفي في الثلاثينيات من عمره بسبب مرض — على الرغم من براعته وامتيازاته. وقال مرة “أعتقد أن العنصر الأهم الذي ظهر في صورتي النفسية الخاصة هو إدراك أكثر لما لدي من عدائيات. في السنوات الأولى كنت أفتخر بعدم وجود أي منها. ربما كان ذلك لأنها كانت مدفونة بعمق شديد وأنا غير راغب وخائف من مواجهتها.” 

على النقيض من ذلك، كان هناك رجل يُدعى غودفري مينوت كميل، الذي دخل دراسة غرانت بتوقعات سلبية جدًا حول حياته. كان لديه أدنى تصنيف متوقع للاستقرار بين المشاركين جميعهم، وقد حاول الانتحار في السابق. عانى في سنوات طفولته من إهمال شديد، حيث كان يتناول وجباته بمفرده حتى بلغ السادسة من عمره، واستمر الألم والخراب في ملاحقته طوال حياته. لكن في سن الخامسة والثلاثين، عاش ما وصفه باليقظة الروحية. أصبح طبيبًا نفسيًا، ووجد إحساسًا عميقًا بالهدف، وبدأ يستخدم تجربته المؤلمة لمساعدة الآخرين. وبحلول نهاية حياته، أصبح أحد أسعد الرجال في تلك الدراسة. 

هذه مجرد أمثلة قليلة من بين العديد التي تُظهر كيف أن نظرة واحدة على لحظة معينة في حياة شخص قد تكون مضللة إلى حد بعيد.” النجاح يُرى من منظور واسع لحياة كاملة، وليس من أي لحظة أو إنجاز معين. 

ما الدرس الذي يمكن تعلمه؟ 

تؤكد دراسة غرانت — والرؤى الجديدة في كتاب “الحياة الجيدة” بقلم المدراء الحاليين الدكتور روبرت والدينغر والدكتور مارك شولتز — على مفهوم طويل الأمد: الرفاهية مدى الحياة لا تحددها أحداث أو إنجازات فردية، بل تتعلق بكيفية نمونا المستمر، وقدرتنا على التكيف، والحفاظ على إحساس بالهدف مع مرور الزمن. 

التفكير بعيد المدى: ما الذي سيكون ذا أهمية بعد خمس، عشر، أو عشرين سنة؟ عندما نتخذ قرارات بناءً فقط على المكافآت أو الضغوطات قصيرة المدى، يمكن أن ننحرف بسهولة عن المسار. ولكن عندما نربط قراراتنا الحالية بشيء أعمق، نكون أكثر عرضة للبقاء ثابتين ومرنين. في إطار عمل الذكاء العاطفي لدى Six Seconds، يُطلق على ذلك متابعة الأهداف النبيلة — وهي مهارة تتعلق بتوافق القرارات اليومية مع رؤية طويلة الأمد تعكس قيمنا. وهذا يعيننا على التعامل مع التعقيدات بوضوح حتى عندما يكون المستقبل غير واضح. 

الطبقة الثانية من هذا الدرس تتعلق بالمرونة العاطفية. إن عيش حياة ذات معنى لا تتحدد فقط بظروفنا، بل أيضًا بكيفية استجابتنا لها. إن تطوير المهارات العاطفية والمعرفية للتعامل مع تحديات الحياة، مما يتيح لنا الاستمرار في النمو حتى في الأوقات الصعبة. على مر السنين، كانت القدرة على التكيف والمضي قدمًا نحو الأهداف هي ما يميز الحياة الجيدة. 

“أن تكون قادرًا على دراسة الأشخاص بهذا العمق، وعلى مدى عقود عديدة، كان أشبه بالنظر من خلال تلسكوب (مقراب) جبل بالومار.”

 – جورج فاليانت حول اكتشاف دراسة غرانت

قد لا تتخذ الورقة القرار نيابة عنك، لكنها ستساعدك على الانتقال من حالة الجمود إلى حالة الثبات — مع “نعم” تشعر أنها تمثلك حقًا.

  1.  الذكاء العاطفي يشكل تجربتنا ونتائجنا

إحدى النتائج الأكثر وضوحًا في دراسة هارفرد حول تطور البالغين هي أن استجابتنا لتحديات الحياة تؤدي دورًا محددًا في جودة حياتنا. على مدار عقود، اكتشف الباحثون، بما في ذلك الدكتور جورج فاليانت الذي ترأس الدراسة لأكثر من 30 عامًا، أن بعض استراتيجيات التكيف العاطفي، المعروفة بـ “التكيّفات”، أثّرت بقوة ليس فقط على الصحة النفسية، ولكن أيضًا على الصحة الجسدية وطول العمر.

صنّف فاليانت الاستراتيجيات إلى ثلاثة مستويات: غير ناضجة، عصابية، وناضجة. ارتبطت التكيّفات غير الناضجة، مثل الإنكار والإسقاط، بنتائج سلبية، بينما ساعدت التكيّفات الناضجة المشاركين على النمو من خلال مواجهة التحديات والتمتع بحياة أكثر إشباعًا. الأهم من ذلك، هو أن العديد من الرجال الذين شاركوا في الدراسة قد طوّروا استجابات عاطفية أكثر صحة مع مرور الوقت، مما يدل على أن هذه المهارات ليست سمات ثابتة، بل يمكن تعلمها وتطويرها.

تتوافق هذه النتائج بشكل وثيق مع المهارات في نموذج Six Seconds للذكاء العاطفي:

  • الإيثار: المساهمة في رفاهية الآخرين (زيادة التعاطف).
  • التوقع: تخيّل نتائج بنّاءة (ممارسة التفاؤل).
  • الكبت : اختيار تأجيل الفعل أو الاندفاع (تطبيق التفكير بالعواقب) وإلى حد ما، التعرف على الأنماط.
  • التسامي : توجيه العواطف نحو النمو والإبداع (التنقل عبر العواطف ومتابعة الأهداف النبيلة).
  • الفكاهة : الحفاظ على منظور ومرونة (تعزيز الوعي الذاتي).

مع تقدم العمر، يزداد اعتماد الأشخاص على التكيّفات الناضجة. على سبيل المثال، بين سن الخمسين والخامسة والسبعين، كان المشاركون أكثر عرضة بأربع مرات لاستخدام استراتيجيات ذكية عاطفية مقارنة بالتكيّفات غير الناضجة. وهذا يدعم الأدلة المتزايدة التي تشير إلى أن الذكاء العاطفي يتطور مع تقدم العمر، والأهم من ذلك أنه يمكن تعزيزه في أي مرحلة من مراحل الحياة.

تشير الدراسات الحديثة في كتاب الحياة الجيدة (2023) لمؤلفيه الدكتور روبرت والدينغر والدكتور مارك شولتز إلى أن القدرات العاطفية لا تعزز الصحة النفسية والمرونة فحسب، بل تشكل أيضًا الهدف الأساسي في حياتنا. يُعتبر الذكاء العاطفي الرابط بين العمل والمعنى، وبين التوتر والتواصل. لذا، ليس مجرد التكيف مع الظروف هو المهم، بل كيفية التطور من خلال التجارب واستخدامها لتعزيز أهدافنا وعلاقاتنا.

تشير دراسة غرانت بشكل عام إلى ثلاثة جوانب متنوعة من الذكاء العاطفي، وقد دُعِمَت من خلال أبحاث إضافية.

  • الذكاء العاطفي يرتبط ارتباطًا عاليًا بالنجاح الشخصي والمهني.
  • مهارات الذكاء العاطفي قابلة للتعلم والقياس.
  • يظهر أن الذكاء العاطفي يتزايد مع التقدم في العمر، على الرغم من أن هذه العلاقة تعتبر ضعيفة.

في نهاية المطاف، كما أوضح فاليانت بعد سنوات طويلة من دراسة البيانات: “الشيء الوحيد الذي يهم حقًا في الحياة هو علاقاتك مع الأشخاص.” الذكاء العاطفي هو القدرة التي تمكننا من بناء علاقات قوية والمحافظة عليها، بالإضافة إلى تقديرها، مما يمنح حياتنا معنى وهدفاً.

  1. العلاقات هي العامل الأهم في السعادة على المدى الطويل

على مدى أكثر من ثمانية عقود، كانت النتيجة الأوضح والأكثر اتساقًا من دراسة هارفرد حول تطور البالغين هي: جودة علاقاتنا — الدفء العاطفي، الثقة، والدعم — هي المؤشر الأهم الوحيد للسعادة والصحة على المدى الطويل. ليس بعدد الأشخاص الذين نعرفهم، بل بمدى شعورنا بالأمان والارتباط الحقيقي. تساعد العلاقات القوية والإيجابية على تقليل التوتر، وتعزيز نظام المناعة، وتسريع التعافي من الأمراض. بالمقابل، يمكن أن تؤدي الوحدة والعزلة الاجتماعية إلى مخاطر صحية تعادل تأثير التدخين أو إدمان الكحول. يمتد هذا الارتباط العميق بين العلاقات والرفاهية إلى ما هو أبعد من الأسرة أو الزواج، ليشمل الصداقات والروابط المجتمعية، بالإضافة إلى التفاعلات اليومية البسيطة.

يذكر الدكتور روبرت والدينغر، الذي يدير الدراسة الحالية: “الوحدة تقتل. إنها قوية مثل التدخين أو إدمان الكحول.” ترتبط قوة وعمق العلاقات الشخصية بمتغيرات عديدة، بدءاً من القدرة على التكيف العاطفي وصولاً إلى مدى طول العمر والصحة العقلية.

قال الدكتور جورج فاليانت “عندما بدأت الدراسة، لم يكن هناك اهتمام بالتعاطف أو العلاقات العاطفية. لكن السر وراء الشيخوخة الصحية هو العلاقات، العلاقات، العلاقات.” تظهر البيانات بوضوح أن العلاقات القوية هي التي تساهم في سعادة الناس وصحتهم على مدار حياتهم، وليس الثروة أو الشهرة أو الطبقة الاجتماعية أو حتى مستوى الذكاء.

تشير الدراسات إلى أن علاقات الرجال في سن 47 تؤثر إلى حد بعيد على الرفاهية في المستقبل، حيث تعتبر هذه العلاقات أهم من أي عامل آخر باستثناء القدرة على التكيف مع تحديات الحياة. هناك ارتباط وثيق بين العلاقات والقدرة على التكيف؛ في استجابتنا للمصاعب تتأثر بالدعم الموجود من حولنا، وامتلاكنا القدرة على بناء الروابط والحفاظ عليها يسهم في كيفية مواجهة تلك التحديات.

وجدت الدراسة روابط قوية بين الحياة المزدهرة وعمق العلاقات مع العائلة، والأصدقاء، والمجتمع. حيث إن المشاركين الذين يتمتعون بروابط وثيقة كانوا أقل عرضة بشكل واضح للإصابة بأمراض مثل القلب والسكري والتهاب المفاصل. كما أظهروا وظائف مناعية أفضل وتعافيًا أسرع من الأمراض. كما أن الأشخاص الأكثر انخراطًا اجتماعيًا كان لديهم معدل أبطأ من التدهور الإدراكي في أواخر العمر.

لقد كان للزواج تأثير واضح على متوسط أعمار الأفراد: حيث عاشت النساء المتزوجات لفترة تتراوح بين 5 إلى 12 سنة أطول، في حين عاش الرجال المتزوجون بين 7 إلى 17 سنة أطول مقارنة بنظرائهم غير المتزوجين. ومع ذلك، كانت هذه الفوائد متعلقة فقط بجودة العلاقة، مما يبرز أهمية وجود علاقات ذات مغزى.

الأفراد الذين لا يمتلكون علاقات قوية معرضين بشكل أكبر لمخاطر الإصابة بالأمراض، الاكتئاب، والوفاة المبكرة.

يتجاوز الأمر بكثير مجرد الزواج أو الروابط الأسرية. تمتد فوائد التواصل لتشمل الصداقات، والعلاقات في بيئة العمل، والمشاركة المجتمعية، وحتى التفاعلات اليومية البسيطة. في كتاب “الحياة الجيدة” (2023)، يشير والدينغر مع المؤلف المشارك الدكتور مارك شولتز إلى أن الجهود الصغيرة والمستمرة في تعزيز العلاقات تترك أثراً تراكميًا في تحسين الشعور بالرضا عن الحياة.

إحدى الرؤى المهمة هي أن العلاقات لا تتعلق فقط بالأشخاص الذين نعرفهم، بل بكيفية تفاعلنا معهم. تشير بيانات الذكاء العاطفي من Six Seconds إلى أن الأفراد الذين يتمتعون بذكاء عاطفي مرتفع هم أكثر عرضة بواقع 38 مرة لتكوين علاقات قوية وعالية الجودة. يعود ذلك إلى أن الذكاء العاطفي أساسه العلاقات: المهارات مثل التعاطف، الوعي الذاتي، وضبط الاندفاع تساعدنا على بناء والحفاظ على قربنا من الآخرين. الأفراد الذين يمتلكون هذه المهارات يبنون روابط قوية، ويستفيدون من ذلك.

كما علّق والدينغر:

من السهل أن تشعر بالوحدة عندما تركز على العمل وتنسى أصدقاءك، فتقول لنفسك: “لم ألتقِ بهؤلاء الأصدقاء منذ فترة طويلة.” لذلك، أسعى جاهدًا لإعطاء علاقاتي المزيد من الاهتمام؛ مما كنت أفعل سابقًا. من المهم أن تدرك أن هذا الخيار يستحق اتخاذه.”

كما يؤكد والدينغر وشولتز، العلاقات ليست رفاهية — إنها أساس الحياة ذات المعنى. لسنا بحاجة لأن نكون منفتحين اجتماعيًا أو أن نمتلك مئات الأصدقاء. نحن فقط بحاجة إلى عدد قليل من الأشخاص الذين نثق بهم، وإلى الشجاعة للاستمرار في تواصل معهم، من أجلهم — ومن أجل أنفسنا.

ما الذي يجعل الحياة جيدة؟ أفكار من أطول دراسة عن السعادة، دراسة هارفارد غرانت

تُعدّ دراسة غرانت، المعروفة أيضًا بدراسة هارفارد حول تطور البالغين، إحدى أكثر الدراسات الطولية شمولًا التي أُجريت إطلاقاً. سعى الباحثون للإجابة عن سؤال يبدو بسيطًا: ما الذي يجعل الحياة جيدة؟ لكن مع مرور العقود، أصبح واضحًا أن هذا السؤال معقد بشكل لافت. للعثور على الإجابة، تابعوا مئات الرجال خلال الجامعة، والزواج، والحرب، والأبوة، وأزمات الحياة، والشيخوخة — جامعِين مجموعة واسعة من البيانات حول صحتهم الجسدية والنفسية.

انطلق المشروع في عام 1938 على يد الطبيب آرلي بوك من جامعة هارفارد، بدعم من راعيه دبليو. تي. غرانت، الذي يعد من كبار التجار. بدأ المشروع مع 268 طالبًا من السنة الثانية في هارفارد بين عامي 1939 و 1944، ومن بينهم الشاب جون ف. كينيدي. كانت رؤية بوك تتمثل في تجاوز التركيز الطبي التقليدي على الأمراض، من خلال دراسة حياة رجال ناجحين و”طبيعيين” بهدف اكتشاف معالم الحياة الجيدة وإمكانية التوصل إلى وصفة عامة للنجاح.

وافق المشاركون على إجراء مجموعة واسعة من المقابلات، والاستبيانات، والفحوصات البدنية، والقياسات الفسيولوجية المكثفة، والتي كانت الأساس لجمع البيانات.

للأسف، كما يحدث في العديد من الدراسات الطولية، بدأ الحماس يتراجع بعد البداية المبشرة. وبعد مرور حوالي عشر سنوات، أوقف غرانت التمويل، وفي منتصف الخمسينيات كانت الدراسة مُهددة بالتوقف.

حافظ فريق من الباحثين برئاسة تشارلز ماكارثر على استمرار المشروع من خلال إرسال استبيانات دورية إلى المشاركين كل عدة سنوات. وجاء التمويل من مصادر متنوعة، بدءًا من مؤسسة روكفلر وصولًا إلى شركة السجائر فيليب موريس.

ثم حدث تطوران رئيسيان غيّرا مسار الدراسة. أولًا، حين وصل الرجال إلى منتصف العمر في ستينيات القرن العشرين، حقق كثير منهم نجاحات كبيرة؛ أربعة ترشحوا لمجلس الشيوخ الأميركي، أحدهم أصبح رئيسًا، وآخر صار مؤلفًا ذائع الصيت. ثم في عام 1967، اكتشف طبيب نفسي شاب يُدعى جورج فاليانت الدراسة، وأُعجب بالإمكانات التي تقدمها. كان فاليانت الداعم الأساسي لهذه المجموعة المذهلة من البيانات، وراوي قصتها — فعادت الدراسة بكامل قوتها، مضيفة مجموعة ثانية من 456 شابًا محرومًا من أحياء بوسطن الداخلية، عُرفت باسم “دراسة غلوك”، مضيفة تنوعًا كان بالغ الأهمية.

مرّ المشاركون في الدراسة بتجارب نجاحات شخصية ومهنية لافتة، ومآسٍ وقلوب محطمة، وواجهوا كل ما تقدمه الحياة بينهما. ومن خلال فحص هذه البيانات الغنية معاً مع نتائج حياتهم المتنوعة، بدأت الأنماط في الظهور — مما أتاح لنا الحصول على رؤى قيّمة حول ما يسهم في حياة مُرضية وجيدة. ومن هذه الأنماط برزت ثلاثة دروس رئيسية.

تُعزز دراسة هارفارد غرانت الأدلة المتزايدة حول أهمية الذكاء العاطفي، حيث تُظهر أن هذه المهارات مرتبطة بقوة بالنجاح، وتعتبر ضرورية للتكيف مع تقلبات الحياة، كما يمكن اكتسابها من خلال التعلم.

دراسة هارفارد غرانت الحالية: أجيال جديدة ورؤى موسعة وأهمية العلاقات.

ما بدأ عام 1938 بدراسة لطلاب السنة الثانية في هارفارد، تحول إلى أحد أبرز المشاريع البحثية المستمرة في العالم.

اليوم، تحت إشراف الطبيب النفسي الأستاذ الدكتور روبرت والدينغر، تستمر دراسة هارفرد حول تطور البالغين في متابعة أكثر من 1,300 طفل من أبناء المشاركين الأصليين. يتيح هذا التوسع للباحثين دراسة تأثير جودة الطفولة، والعلاقات، وتجارب الحياة عبر الأجيال.

كما توسعت الدراسة بطرق رئيسية أخرى: أصوات أكثر تنوعًا: من خلال إدراج الزوجات والشركاء على مدار العقد الماضي، قدمت الدراسة تنوعًا أكبر في الجوانب المتعلقة بالنوع الاجتماعي والخلفية وتجارب العلاقات — مما أتاح صورة أوضح لما يعزز ازدهار الأفراد. أدوات حديثة لأسئلة دائمة: من العلامات الجينية إلى تصوير الدماغ وبيانات هرمونات التوتر، يدمج البحث الحالي البيانات البيولوجية مع الفهم النفسي والعاطفي. وهذا يسمح للعلماء لفهم كيفية تأثير التجارب المبكرة في الحياة على صحتنا العاطفية والجسدية على المدى الطويل.

ما الذي لم يتغير؟ النتيجة الأساسية التي لا تزال تتكرر عبر عقود من البيانات:

“أوضح رسالة نتلقاها من هذه الدراسة الممتدة 85 عامًا هي: العلاقات الجيدة تجعلنا أكثر سعادة وصحة. نقطة.” – الدكتور روبرت والدينغر

ما الذي تضيفه الأبحاث الحديثة؟

استناداً إلى عقود من البيانات، يقدم التلخيص الأخير من كتاب “الحياة الجيدة” (2023) للدكتورين روبرت والدينغر ومارك شولتز رؤى جديدة هامة.

  • الوحدة ضارة بنفس مقدار التدخين أو السمنة. العزلة المزمنة تؤثر في الجسم بنفس قدر تدخين 15 سيجارة يوميًا
  • الجودة أهم من الكمية. ليس المهم عدد الأشخاص الذين تعرفهم، بل الإحساس بالأمان والأهمية والدعم الذي تتلقاه.
  • العلاقات الوثيقة تساعد على تنظيم التوتر. الروابط الداعمة تعمل كعازل ضد التحديات العاطفية والجسدية للحياة.
  • العلاقات هي أنظمة حيوية، تشبه أجسامنا، فهي تتطلب الرعاية والاهتمام والتغذية لكي تنمو وتزدهر.
  • الذكاء العاطفي يسهل التواصل بين الأفراد. فمهارات مثل التعاطف والإفصاح عن الضعف وضبط النفس تساهم في بناء علاقات عميقة والمحافظة عليها على مر الزمن.

تعزز هذه النتائج معاً الحقيقة الدائمة للدراسة: الاتصال ليس مجرد وسيلة للراحة — إنه عنصر أساسي للصحة والسعادة وطول العمر.

أهم ما يستخلصه المدير روبرت والدينغر: بناء حياة جيدة

إذن، ماذا يعني كل هذا لنا؟

 إن أساس الحياة الجيدة ليس سرًا كبيرًا. إنه شيء يمكننا البدء في تنميته اليوم. إنه في اللحظات الصغيرة: الاطمئنان على صديق، إفساح المجال لمشاعر طفل، أخذ نفس قبل الرد، اختيار اللطف حين يكون الأمر صعبًا.

كما يقول والدينغر:”العلاقات فوضوية ومعقدة. لكن الحياة الجيدة تُبنى بالعلاقات الطيبة.” 

لكي نعيش حياة جيدة، يجب علينا أن نتعلم كيف نحب بعمق. وهذا يتطلب منا تنمية الوعي العاطفي، والقدرة على التعاطف، والشجاعة للاستمرار في الوُجود — لأنفسنا وللآخرين.

وماذا عنك؟ هل تؤكد هذه النتائج، أو تتحدى معتقداتك حول ما الذي يجعل الحياة جيدة؟ يسعدنا أن نسمع أفكارك في التعليقات.

🛠 ابنِ حياتك الجيدة: 5 طرق للبدء هذا الأسبوع

مستوحاة من كتاب الحياة الجيدة (2023) لوالدينغر وشولتز

  • أرسل رسالة نصية، أو اتصل بصديق مقرّب فقط للاطمئنان.
  • خطط لنشاطات اجتماعية — نزهات أسبوعية، عشاء، أو قهوة.
  • مارس محادثات صغيرة: تواصل بالعين، ابتسم، حيِّ الجيران.
  • تأمل “شبكة الدعم”: من تثق به؟ ومن يثق بك؟
  • أصلح العلاقة المتوترة — اتخذ خطوة بسيطة نحو إصلاحها.

اللحظات البسيطة من التواصل التي تتكرر مع مرور الزمن هي التي تساهم في بناء حياة ذات معنى.

إذا كان الذكاء العاطفي يساعدنا على التواصل، فكيف نمارسه فعليًا في حياتنا اليومية؟

كتابنا الإلكتروني “ممارسة الذكاء العاطفي” يقدم تمارين بسيطة مدعمة بالأبحاث لتنمية الذكاء العاطفي — مثل رسم شبكة دعمك أو الانتباه لمشاعرك قبل محادثة صعبة. سواء كنت تقوّي الروابط القائمة، أو تفتح المجال لروابط جديدة، فإن المفتاح هو الحضور، والنية، والرعاية.

الأسئلة الشائعة

ما هي دراسة هارفارد غرانت؟

دراسة هارفارد غرانت تُعتبر إحدى أطول الدراسات وأكثرها شمولاً حول تطور البالغين والرفاهية. بدأت في عام 1938 من خلال متابعة مجموعة من طلاب هارفارد لفهم ما الذي يؤدي إلى حياة سعيدة وصحية. على مدار العقود، جمعت الدراسة بيانات تفصيلية عن الصحة الجسدية، الرفاهية النفسية، العلاقات، وتجارب الحياة للمشاركين، مما أتاح رؤى عميقة حول العوامل التي تسهم في حياة جيدة.

ما هو الاستنتاج الرئيسي من الدراسة؟

 أكثر اكتشاف متسق هو أن العلاقات الجيدة تجعلنا أكثر سعادة وصحة طوال الحياة. هذا ينطبق على نطاق واسع على الرفاهية العاطفية، الصحة الجسدية، طول العمر، والمرونة الإدراكية. العلاقات الوثيقة، الدافئة، والمستقرة هي مؤشر أقوى على الرضا عن الحياة والصحة مقارنة بالعوامل مثل الثروة، معدل الذكاء، أو الشهرة.

هل تغيرت الدراسة مع مرور الوقت؟

 نعم، توسعت الدراسة لتشمل ما هو أبعد من مجموعة طلاب هارفارد الأصلية لتشمل الشباب المحرومين، ومؤخرًا أبناء وبنات المشاركين الأصليين، وزوجاتهم وشركاءهم. هذا التوسع زاد التنوع في الجنس والخلفية والتجارب الحياتية، موفرًا صورة أكمل لما يساعد الناس على الازدهار. يركز البحث الآن بشكل أعمق على الدفء العاطفي وجودة العلاقات، وليس فقط وجودها.

هل تدعم نتائج دراسة هارفارد الأدلة العلمية الأوسع؟

 نعم. تظهر الأبحاث أن الوحدة والاتصال الاجتماعي الضعيف يزيدان إلى حد بعيد من المخاطر الصحية، بما يعادل التدخين 15 سيجارة يوميًا أو السمنة. وقد اعترفت منظمة الصحة العالمية بالوحدة كمشكلة صحية عامة خطيرة؛ بسبب تأثيرها الواسع على الصحة النفسية والجسدية. هذا يدعم تركيز دراسة هارفارد على الأهمية الحيوية للعلاقات الوثيقة والداعمة.

اجعل الذكاء العاطفي جزءًا من يومك من خلال الانضمام إلينا على وسائل التواصل الاجتماعي.