هل شعرت يومًا بأن لا أحد يسمعك؟

هل خضت محادثة من قبل، وكنت متأكدًا أن الشخص الآخر لا يستمع حقًا؟ ربما كانت عيناه تتجهان باستمرار نحو هاتفه، أو كان يومئ برأسه دون أن يعلّق فعليًا على ما قلته. إنه أمر محبط، أليس كذلك؟ يجعلك تشعر بعدم الأهمية، وبالانفصال، وربما حتى بأنك غير مرئي.

والحقيقة أننا جميعًا كنا في كلا الجانبين من هذا الموقف. فنحن نعيش في عالم سريع الإيقاع، تتنافس فيه المشتتات على جذب انتباهنا، مما يجعل من الصعب أن نكون حاضرين حقًا في علاقاتنا. لكن إن كنا نرغب باتصالات ذات معنى، علينا أن نسأل أنفسنا: كيف يمكننا أن نحضر بشكل مختلف؟

الطريقة التي نحضر بها في المحادثات تؤثر أكثر مما نتصوّر، ليس فقط على الآخرين، بل علينا نحن أيضًا، في طريقة عيشنا لحياتنا، وفي من نحن في طور أن نصبحه. هل تساءلت يومًا لماذا يبدو التواصل الحقيقي نادرًا؟ كأنه ترف في عالمنا المزدحم والمشتت؟ حسنًا، لدينا دور في ذلك. نحن من نقرر كيف نحضر، ويمكننا أن نختار أن نكون حاضرين.

عندما نختار أن نكون حاضرين بالكامل، أن نصغي بعمق، وأن ندخل المحادثات بفضول، فإننا لا نحسن فقط علاقاتنا، بل نصبح نسخًا أفضل من أنفسنا. نرى ما هو مهم، ونخلق الروابط ذات المعنى التي نشتاق إليها، وحينها تصبح الحياة أغنى وأكثر إشباعًا.

علم الاتصال و التواصل: لماذا للحضور أهمية

أدمغتنا مبرمجة حرفيًا على التواصل. تُظهر أبحاث علم الأعصاب أن هناك خلايا تُعرف باسم “الخلايا العصبية المرآتية” تمكّننا ليس فقط من ملاحظة المشاعر، بل من الشعور بها أيضًا. لهذا السبب نبتسم بشكل غريزي عندما يضحك أحد، أو نشعر بالتوتر أثناء مشاهدة فيلم مشوّق.

التعاطف هو جزء طبيعي فينا، لأننا وُلدنا بقدرة فطرية عليه. تُظهر الدراسات أن حتى الرضّع في أشهرهم الأولى يُبدون ردود فعل تعاطفية، مثل البكاء عندما يسمعون طفلًا آخر يبكي، أو الاضطراب عندما يبدو أحدهم منزعجًا. هذه السلوكيات المبكرة تُظهر أن التعاطف مزروع فينا منذ البداية.

لكن مع مرور الوقت، تُعلّمنا الحياة أن المنطق والكفاءة أهم من الوعي العاطفي. فنُعطي الأولوية لأن نكون على صواب، وأن نكون مسيطرين، بدلًا من الإصغاء والوجود الحقيقي. نميل إلى الحل والإصلاح بدلًا من الإحساس والفهم. ومع الوقت، تؤدي هذه الأولوية للأداء إلى كبت تعاطفنا الفطري وقدرتنا على الاتصال بالآخرين. وببطء، نصبح أكثر عزلة؛ مخلوقون للتواصل، لكننا مُبرمجون على الانفصال.

وعندما نبدأ بالوعي بكيفية حضورنا، نمتلك القدرة على اختيار الخطوة الصحيحة التالية. والخبر الجيد هو أن التعاطف، حتى وإن لم يكن جزءًا منتظمًا من ممارساتنا، هو مهارة يمكننا دائمًا استعادتها وتقويتها. فبدلًا من التركيز على “الأداء” في المحادثات، ماذا لو غيّرنا هدفنا إلى “الفهم”؟ ماذا لو حرصنا على أن يشعر من حولنا بأنهم مُقدَّرون، محترمون، ومسموعون فعلًا؟ ماذا لو اخترنا أن نصغي، ليس فقط بآذاننا، بل بكل كياننا؟

أثر الإصغاء العميق

الإصغاء العميق لا يقتصر على سماع الكلمات، بل يعني الانتباه للمشاعر والسياق والنوايا التي تكمن خلفها. إنه أن تكون حاضرًا بالكامل في اللحظة، خاليًا من المشتتات، وأن تمنح الشخص الآخر شعورًا حقيقيًا بأنه مفهوم. تُظهر الأبحاث أن هذا النوع من الاستماع المتأنّي يعزّز العلاقات من خلال بناء الثقة، وتقليل سوء الفهم، وزيادة الذكاء العاطفي. في الواقع، أظهرت دراسة لمجلة Harvard Business Review أن الفرق التي يقودها قادة يتمتعون بذكاء عاطفي سجّلت نسبة تفاعل أعلى بـ 20% — فقط لأن هؤلاء القادة جعلوا الحضور والتعاطف جوهرًا في تواصلهم.

والواقع أن الإصغاء العميق ليس سهلاً دائمًا في عالم مليء بالمشتتات. لكن عندما نبذل جهدًا لنستمع بصدق، فإننا نخلق مساحة لازدهار التواصل. ومع مرور الوقت، تتراكم هذه اللحظات من الحضور المركز، فتعزز علاقاتنا وتنمّي نموّنا العاطفي.

فكّر في علاقاتك الخاصة. كم مرة تقوم بـ:

  • الاستماع الكامل دون تجهيز ردّك أثناء حديث الطرف الآخر؟

  • التوقف قليلًا للتفكير بما قد يشعر به الشخص الآخر، بعيدًا عن مجرد كلماته؟

  • طرح أسئلة تساعدك على فهم وجهة نظره، بدلاً من القفز إلى استنتاجات؟

هذه التحولات البسيطة في طريقة استماعنا لها تأثير قوي على جودة تواصلنا. وكلما تمرّنا أكثر، بنينا ثقة أكبر، وقللنا من سوء الفهم، وزدنا وعينا العاطفي — ليس فقط تجاه الآخرين، بل تجاه أنفسنا أيضًا

الاحترام المتعاطف

عندما نحترم شخصًا ما بصدق، فإنه يشعر بذلك. وعندما يشعر الناس بالاحترام، ينفتحون. وهكذا يتعمق التعاطف، وهكذا تنمو العلاقات. وكل هذا يبدأ بالحضور الكامل في اللحظة. فالاحترام لا يُعبَّر عنه بالكلمات فقط، بل يتجلى في تركيزنا، وانتباهنا، ونوايانا أثناء كل لحظة من التواصل.

لتحسين مهارات الاستماع وتعزيز علاقاتك، جرّب ممارسة “الاحترام المتعاطف”. هذه الممارسة تساعدك على التواصل بعمق أكبر مع مشاعر الطرف الآخر ووجهة نظره، وتبني أساسًا قويًا للثقة والفهم المتبادل. إليك كيف تطبقها:

١. توقف وتأمل في وجهة نظرهم
قبل أن ترد، خذ لحظة للتراجع خطوة إلى الوراء. ما الذي قد يشعر به الشخص الآخر؟ ما الذي يهمه الآن؟ فكر فيما قد يكون خلف كلماته، حتى وإن لم يعبّر عنها صراحة.

٢. راجع توازن القوى في المحادثة
هل تفترض أن طريقتك هي الطريقة الوحيدة؟ راقب كيف يتغير أسلوبك عندما تتعامل كندٍّ، بدلاً من فرض السيطرة أو الهيمنة. كيف يبدو الأمر عندما تتخلى عن الحاجة لأن تكون “على حق”؟

٣. ابحث عن شيء يستحق التقدير
كل محادثة—حتى الصعب منها —تحمل فرصة للتعلم. ابقَ منفتحًا على اكتشاف شيء ثمين في الشخص الآخر. سواء كانت وجهة نظره، أو تجربته، أو حتى شجاعته في المشاركة، هناك دائمًا ما يستحق الاحترام.

عندما نأخذ الوقت لنستمع بتعاطف واحترام، فإننا لا نحسن فقط أسلوب التواصل، بل نبني الثقة، ونعزز الروابط العاطفية، ونعمّق العلاقة.

اتخذ الخطوة التالية

تم اقتباس تمرين “الاحترام المتعاطف” من كتيّبنا الإلكتروني ممارسة الذكاء العاطفي، والذي يحتوي على العديد من التمارين الأخرى لمساعدتك في تطوير ذكائك العاطفي وتحسين علاقاتك.

وقبل أن تتابع يومك، توقف لحظة وتأمل:
ما هو التغيير الصغير الذي يمكنك القيام به اليوم في طريقة استماعك؟
كيف يمكنك أن تحضر بشكل أعمق، وتُظهر المزيد من الفهم والاحترام في محادثاتك؟
شاركنا أفكارك في التعليقات! 💬